اهم الاخبار

الاثنين، 5 مايو 2014

الحب عند ابن حزم وابن القيم

عندما يدلي  الفقهاءبدلوهم في الحب فاستمتع
ابحار وتمعن ودراسة في  فلسفة الحب عند ابن حزم وابن القيم 


الحب عاطفة إنسانية نبيلة،يشترك فيها الناس بحكم الفطرة،وقد تعودنا أن نسمع فيها كلام الأدباء والشعراء،وهم في الحقيقة أقدر من غيرهم على التعبير عنها؛لأن الذائقة الأدبية والشعرية لاتنفك عن الارتباط بالمشاعر والعواطف الإنسانية،وللإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ كلام حكيم يقول فيه:«من تعلم الفقه نبل قدره،ومن تعلم الأدب رقّ طبعه» وهذا الكلام يكشف عن أثر التكوين المعرفي في حياة الإنسان ،فالفقيه يكسبه الفقه نبالة القدر في المجتمع،والأديب يكسبه الأدب رقةً في المشاعر والأحاسيس،ولذلك لاعجب أن يكون الأدباء هم الأقدر من غيرهم على التعبير عن العواطف والمشاعر الإنسانية.
وأما الفقهاء وعلماء الدين فقد كانوا بعيدين عن تناول موضوع الحب والعشق والغرام،وذلك بحكم مكانتهم الدينية،وبحكم تكوينهم العلمي والفكري،إضافة إلى أنهم كانوا يراعون الحالة النفسية والذهنية للجماهير،فجماهير الناس لاينتظرون من الفقيه أن يحدثهم عن الحب والغرام،وإذا تحدث الفقيه عن ذلك كان في نظرهم خارجاً عن الرزانة والرصانة الفقهية،وخالعاً لرداء الوقار والهيبة الدينية..ولهذا أصبح من النادر أن يتحدث الفقهاء عن الحب والغرام،فقليل جداً من الفقهاء من فعل ذلك،وهم على قلتهم كانوا متوجسين من ردة الفعل،فهذا الإمام ابن حزم يقول في كتابه «طوق الحمامة»:«وأنا أعلم أن سينكر عليّ بعض المتعصبين تأليفي لمثل هذا،ويقول:خالف طريقته،وتجافى عن وجهته،وما أحل لأحدٍ أن يظن فيّ غير ماقصدته ،قال الله عزوجل:«ياأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن اثم«1» «2»
والإمام ابن القيم يقول في مقدمة كتابه «روضة المحبين» إنه:«قد نصب نفسه هدفاً لسهام الراشقين،وغرضاً لأسنة الطاعنين،فلقارئ الكتاب غنمه وعلى مؤلفه غرمه» «3»
والحقيقة أن كلام الفقهاء في موضوع الحب والغرام له مذاق خاص ومتفرد..وهذه القراءة هي محاولة لبيان فلسفة الحب عند إمامين جليلين،وفقيهين كبيرين،هما:
üالإمام ابن حزم الأندلسي «384ـ456هـ»
ü والإمام ابن قيم الجوزية «691 ـ 751هـ»
ولأن الإمام ابن حزم متقدم في الزمن على الإمام ابن القيم،وله قصب السبق في الكتابة عن الحب والغرام،فسوف نبدأ بعرض وجهة نظره أولاً،ثم نثني بوجهة نظر ابن القيم،وعرضنا سيتناول مسائل محددة،فابن حزم وابن القيم لهما كلام واسع في الحب والعشق والغرام،والحديث ذو شجون، وليس هدفي أن أستعرض كل ما قالاه،ولكن هدفي أن أبين فلسفة الحب عندهما من خلال بيان مواضع الاتفاق والافتراق بينهما حول مسائل معينة، ويظهر من خلالها فلسفة الحب عند كلٍ منهما.وتلك المسائل هي:
1ـ الحب بين الاختيار والاضطرار.
2ـ حقيقة الحب وسببه.
3ـ الفرق بين الحب والشهوة.
4ـ الحب من أول نظرة..
5ـ الحب الأول..
6ـ دوام الوصل...هل يذهب بالحب؟!
7ـ الشجار بين المحبين ..هل ينافي الحب؟!
8ـ الحب...بلامعصية
وهذا أوان الشروع في تلك المسائل ولتكن بدايتنا من المسألة الأولى:
üالحب بين الاختيار والاضطرار
لايفوت ابن حزم أن يبين أن الحب فطرة في النفس الإنسانية،فالإنسان مفطور على استحسان الجمال،ومن طبعه أن يتمكن الحب من قلبه،والإسلام لم يأتِ ليحارب الفطرة الإنسانية،وإنما أتى لتهذيبها واعلائها والسمو بها.

ويقول ابن حزم:إن البعض من الناس يفر من أن يوصم بالحب أو العشق،لأنه يرى أن ذلك الوصم إنما هو صفة أهل البطالة،ويرد ابن حزم على ذلك بأن هذا الفهم غير صحيح،لأن المسلم حسبه أن يعف عن محارم الله ،وأن يتحكم بحركات جوارحه الظاهرة،وأما القلوب فهي بيد مقلبها سبحانه «4»
والفكرة التي ينطلق منها ابن حزم أن الحب أو العشق من الأمور الفطرية الطبيعية الضرورية،وبالتالي هو يخرجه عن دائرة الذم العرفي أو الإثم الشرعي،ومن كلامه في تقرير هذا المعنى قوله:«وأما استحسان الحسن، وتمكن الحب،فطبع لايؤمر به،ولا ينهى عنه،إذ القلوب بيد مقلبها،ولايلزمها غير المعرفة والنظر في فرق مابين الخطأ والصواب،وأن يعتقد الصحيح باليقين،وأما المحبة فخلقة»«5»
ويقول ـ أيضاً ـ : «الحب أوله هزل،وآخره جد،دقت معانيه لجلالتها أن توصف،فلاتدرك حقيقتها إلا بالمعاناة،وليس بمنكر في الديانة،ولا بمحظور في الشرع،إذ القلوب بيد الله عزوجل،وقد أحب من الخلفاء المهديين،والأئمة الراشدين كثير...»«6»
ومن شعره في ذلك «7»:
يلوم رجالٌ فيك لم يعرفوا الهوى
وسيان عندي فيك لاحٍ وساكتُ
يقولون جانبت التصاون جملةً
وأنت عليهم بالشريعة قانتُ
فقلتُ لهم هذا الرياء بعينه
صُراحاً وزيٌُّ للمرائين ماقتُ
متى جاء تحريم الهوى عن محمدٍ
وهل منعه في محكم الذكر ثابتُ
إذا لم أواقع محرماً أتقي به
مجيئى يوم البعث والوجه باهتُ
فلست أُبالي في الهوى قول لائم
سواءً لعمري جاهرٌ أو مخافتُ
وهل يلزم الإنسان إلا اختيارهُ
وهل بخبايا اللفظ يؤخذُ صامتُ
وابن القيم يتفق مع ابن حزم في أن الحب طبيعة وفطرة،ومن كلامه في ذلك:«ولما كان العبد لاينفك عن الهوى مادام حياً ـ فإن هواه لازم له ـ كان له الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع،ولكن المقدور له،والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهلكة إلى مواطن الأمن والسلامة،مثاله:أن الله سبحانه وتعالى لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة، بل أمره بصرف ذلك الهوى إلى نكاح ماطاب له منهن، من واحدة إلى أربع...» «8»
ويذكر ابن القيم حجج من يمدح العشق ويتمناه،ومن ذلك احتجاجهم بالطبع والفطرة،كالذي يروى عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قيل له:إن ابنك قد عشق فلانة،فقال: الحمدلله الذي رده إلى طبعه الآدمي! «9»
وكقول الشاعر«10»:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ماالهوى
فأنت وعير في الفلاةِ سواء!
وقول الآخر«11»:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ماالهوى
فقم فاعتلف تبناً فأنت حمار!
وابن القيم حين يورد مثل هذه الاحتجاجات فإنه لايرد عليها؛لأنه لاينازع في كون الحب والعشق طبيعة وفطرة في النفس الإنسانية،ولكنه يحمل الإنسان مسؤولية مايقع فيه من الحب والعشق ولاينفي عنه المسؤولية كما يصنع ابن حزم.
يقول ابن القيم:«إن مبادئ العشق وأسبابه اختيارية داخلة تحت التكليف؛فإن النظر والتفكر والتعرض للمحبة أمر اختياري،فإذا أتى بالأسباب كان ترتب المُسبب عليها بغير اختياره،كما قيل:
تولع بالعشق حتى عشق
فلما استقل به لم ىُطق
رأى لجةً ظنها موجةً
فلما تمكن منها غرق
تمنى الإقالة من ذنبه
فلم يستطعها ولم يستطق
...فمتى كان السبب واقعاً باختياره ،لم يكم معذوراً فيما تولد عنه بغير اختياره»12»
ولم يخف ابن القيم نقده لابن حزم إذ يقول:
«وذهب أبومحمد ابن حزم إلى جواز العشق للأجنبية من غير ريبة،وأخطأ في ذلك خطأً ظاهراً..»«13»
والحقيقة أن ابن حزم نظر إلى المسألة من زاوية الاضطرار الذي لا اختيار للإنسان فيه،كما يظهر من قوله:
وهل يلزم الإنسان إلا اختياره
وهل بخبايا اللفظ يؤخذ صامتُ
وأما الإمام ابن القيم فهو مع تسليمه بدعوى الاضطرار هذه، لكن يرى أن أصل المسألة اختياري وليس اضطرارياً، ومن هنا كان الاختلاف بين الفقيهين الكبيرين في توصيف الرؤية الفقهية ،وهو خلاف أساسه اختلاف الرؤية الفلسفية في مسألة الاختيار والاضطرار في المحبة
üحقيقة الحب وسببه
يرى ابن حزم أن المحبة أنواع مختلفة،ومنها:
1ـ المحبة في الله سبحانه وتعالى وتكون للموافقة في العلم والدين والعمل الصالح.
2ـ المحبة للقرابة.
3ـ المحبة للألفة.
4ـ محبة الاشتراك في المطالب
5ـ محبة التصاحب والمعرفة.
6ـ المحبة الناشئة عن بر الإنسان بأخيه
7ـ المحبة لطمع في جاه المحبوب
8ـ محبة المتحابين لسر يجتمعان عليه ويلزمهما ستره.
9)المحبة لبلوغ اللذة وقضاء الوطر.
10)محبة العشق.
وتنفرد محبة العشق بكونها لا سبب لها إلا الاستحسان الروحاني والامتزاج النفساني،ولذلك فسائر أنواع المحبة الأخرى قابلة للزيادة والنقصان بزيادة ونقصان وفناء أسبابها،إلا محبة العشق فلا فناء لها إلا بالموت «14».
وليست علة محبة العشق حُسن الصورة الجسدية؛لأنه لو كانت هي العلة لوجب ألا يستحسن العاشق الأنقص من الصور، وواقع الحال يدلنا أن كثيراً من العشاق آثروا ومالوا إلى استحسان الصور الأقل جمالاً،فعلمنا من ذلك أن محبة العشق هي اتصال نفساني بين أجزاء النفوس المقسومة بين الخلق«15».
ومن الدليل على هذا أنك لاتجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق في الصفات الطبيعية،وكلما كثرت الاشباه زادت المجانسة،وتأكدت المودة،والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف،وماتناكر منها اختلف» رواه البخاري وسلم «16».
وهنا اعتراض يورده ابن حزم ويجيب عليه، وهو:إذا كانت علة محبة العشق هي الاستحسان الروحاني، والامتزاج النفساني،فنفس العاشق والمعشوق مشتركتان في ذلك،فكيف يقع في بعض الأحيان أن يحب الإنسان من لايحبه؟!.
ويجيب ابن حزم على ذلك بأن نفس الذي لايحب من يحبه محجوبة بالطبائع الأرضية،ولذلك هي لاتحس بالنفس الأخرى المتصلة بها،ولو تخلصت من الحُجب والأسباب المانعة لوقع الاتصال بالنفس الأخرى.
ويضرب على ذلك مثلاً بالمغناطيس والحديد فالمغناطيس يجذب الحديد،والحديد بطبعه ينجذب نحو المغناطيس،ولكن متى أمسك الإنسان الحديد بيده لم ينجذب نحو المغناطيس،لأن قوة الممسك أقوى من قوة الانجذاب في الحديد،فكذلك الأمر في النفس الإنسانية،قد يوجد مايحول بينها وبين الاتصال بالنفس الأخرى المشاكلة لها «17».
وفي سياق تقريره لمعنى كون المحبة اتصال نفساني،وامتزاج روحاني، مع مايعنيه ذلك من الاتفاق والمشاكلة في الصفات الطبيعية،يورد ابن حزم قصتين الأولى عن بقراط،والثانية عن أفلاطون، أما بقراط فيُروى عنه أنه اغتم حين ذكروا له أن رجلاً من أهل النقصان يحبه، فقيل له في ذلك، فقال:أما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه.
وأما أفلاطون فقد ذكروا أن بعض الملوك سجنه ظلماً، فلم يزل يجادل عند نفسه حتى أظهر براءته،وعلم الملك أنه بريء، ومع ذلك استمر في حبسه،فقال الوزير:أيها الملك قد استبان لك أنه بريء فمالك وله؟
فقال الملك:مالي إليه سبيل،غير أني أجد في نفسي استثقالاً لا أدري ماهو.
فأبلغ الوزير أفلاطون بذلك،فأدرك أفلاطون أن المنافرة بين نفسيهما هي السبب..
وقال أفلاطون:فاحتجت أن أفتش في نفسي وأخلاقي شيئاً أقابل به نفسه وأخلاقه،مما يشبهها،فنظرت في أخلاقه فإذا هو محب للعدل كاره للظلم،فميزت هذا الطبع فيَّ،فماهو إلا أن حركت هذه الموافقة،وقابلت نفسه بهذا الطبع الذي بنفسي، فأمر باطلاقي، وقال لوزيره:قد انحل ماكنت أجد في نفسي عليه«18».
وابن القيم لايختلف مع ابن حزم في أن المحبة تقوم على المشاكلة والمناسبة بين النفوس،وهو يستدل لذلك بالحديث الصحيح الذي استدل ابن حزم به «الأرواح جنود مجندة،فما تعارف منها ائتلف،وماتناكر منها اختلف» ويذكر قصة بقراط التي ذكرها ابن حزم كما مر معنا«19».
يقول ابن القيم :«إن التناسب بين الأرواح من أقوى أسباب المحبة:
فكل امرئ يصبو إلى مايناسبه
وهذه المناسبة نوعان:أصلية من أصل الخلقة،وعارضة بسبب المجاورة أو الاشتراك في أمر من الأمور، فإن من ناسب قصدك حصل التوافق بين روحك وروحه،فإذا اختلف القصد زال التوافق،فأما التناسب الأصلي فهو اتفاق أخلاق وتشاكل أرواح،وشوق كل نفس إلى مشاكلها،فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع،فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة،فتنجذب كل منهما إلى الأخرى بالطبع،وقد يقع الانجذاب والميل بالخاصية،وهذا لايعلل،ولايعرف سببه،كانجذاب الحديد إلى الحجر المغناطيس، ولاريب أن وقوع هذا القدر بين الأرواح أعظم من وقوعه بين الجمادات،كما قيل:
محاسنها هَيُولي كل حُسنٍ
ومغناطيس أفئدة الرجال
وهذا الذي حمل بعض الناس على أن قال:إن العشق لايقف على الحُسن والجمال، ولايلزم من عدمه عدمه،وإنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوق عليها ،كما قيل:
وما الحبُ من حُسنٍ ولا من ملاحةٍ
ولكنه شيء به الروح تكلف »«20».
ثم يذكر ابن القيم الاشكال التي سبق وذكرها ابن حزم وهو:إذا كانت علة محبة العشق المشاكلة النفسية والمناسبة الروحية، فهذا يلزم منه الاشتراك في المحبة، والواقع يشهد بخلافه، فكم من محب غير محبوب، بل بسيف البغض مضروب«21».
ويذكر ابن القيم في الجواب عند هذا الاعتراض ثلاثة أجوبة:
أولها:جواب الإمام ابن حزم الذي سبق معنا،وابن القيم ينسبه إلى ابن حزم وينقل كلامه فيه بنصه«22».
والجواب الثاني:أن الأرواح خلقت قبل الأجساد فأي روحين حصل بينهما التلاقي في عالمهما القديم،حصل بينهما التآلف في هذا العالم،وإن تنافرتا هناك،حصل بينهما التنافر هنا.
وابن القيم يرفض هذا الجواب،ويعلل ذلك بقوله:«وهذا الجواب مبني على الأصل الفاسد الذي أصله هؤلاء أن الأرواح موجودة قبل الأجساد،وأنها كانت متعارفة متجاورة هناك،تتلاقى وتتعارف،وهذا خطأ، بل الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل أن الأرواح مخلوقة مع الأجساد، وأن الملك الموكل ينفخ الروح في الجسد ينفخ فيه الروح إذا مضى على النطفة أربعة أشهر، ودخلت في الخامس،وذلك أول حدوث الروح فيه» «23».
وأما الجواب الثالث:فهو الجواب الذي يمثل رأي ابن القيم،واجتهاده الخاص في المسألة، وابن القيم يقطع بصوابه إذ يقول :«... الصواب في الجواب أن يقال:إن المحبة كما تقدم قسمان:محبة عرضية غرضية،فهذه لايجب الاشتراك فيها، بل يقارنها مقت المحبوب وبغضه كثيراً، إلا إذا كان له معه نظير عرضه فإنه يحبه لغرضه منه، كما يكون بين الرجل والمرأة اللذين لكل منهما غرض مع صاحبه.
والقسم الثاني:محبة روحية سببها المشاكلة والاتفاق بين الزوجين،فهذه لاتكون إلا من الجانبين ولابد،فلوفتش المحب المحبة الصادقة قلب المحبوب لوجد عنده من محبته نظير ماعنده أو دونه أو فوقه»«24».
وهنا يختلف ابن القيم مع ابن حزم، فابن حزم يرى أن المحبة التي أصلها التشاكل والتناسب الروحي قد تقع من جانب واحد،وأما ابن القيم فيرى أنها لابد أن تقع من الجانبين، فإن وقعت من جانب واحد فهي محبة عرضية غرضية،وليست محبة روحية.
الفرق بين الحب والشهوة
ويرى ابن حزم أن النفس الانسانية من طبعها أنها تنجذب إلى الصور الجميلة، فإذا رأت صورة حسنة مالت إليها، فإذا كان الذي وراء الصورة الحسنة نفس مشاكلة،وروح موافقة حصل الاتصال بين النفسين، وتولد عن ذلك الاتصال الحب الحقيقي،وأما إن لم يكن وراء الصورة الحسنة شيء من المشاكلة النفسية والموافقة الروحية، فتنحصر حينها المحبة في حب الصورة فقط، وتلك هي الشهوة.«25».
وابن حزم يؤكد هنا على ماسبق وقرره من أن الحب الحقيقي هو حب رفيع تلتقي فيه الأرواح والنفوس،فالأرواح هي التي تتعارف،والنفوس هي التي تتآلف،ولذا فهو حب خالد لايفنى لأنه يستمد خلوده من خلود الأرواح الباقية.
وأما ابن القيم فهو يذم مايسميه حب الشهوة،ويقول عنه إنه حب النفوس الحيوانية،تلك النفوس الأرضية السفلية التي لاتبالي بغير شهواتها،ولاتريد سواها «26».
وهذا الذم إنما هو لحب الشهوة المجرد،وأما أن يمتزج الحب الحقيقي بالرغبة الجسدية فابن القيم لاينكر ذلك،بل يرى أن العلاقة هنا تلازمية وفي ذلك يقول:«إذا تشاكلت النفوس،وتمازجت الأرواح وتفاعلت،تفاعلت عنها الأبدان،وطلبت نظير الامتزاج الذي بين الأرواح،فإن البدن آلة الروح ومركبه،وبهذا ركب الله سبحانه الشهوة بين الذكر والانثى طلباً للامتزاج والاختلاط بين البدنين،كماهو بين الروحين»«27».
الحب من أول نظرة
وأما الحب من أول نظرة فابن حزم لايؤمن به، ويقول عن ذلك:«وإني لأُطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة،ولا أكاد أصدق،ولا أجعل حبه إلا ضرباً من الشهوة...» «28».
وهنا اشكال يرد على ابن حزم وهو أنه قد قرر فيما مضى أن سر الحب وحقيقته في ذلك الاتصال الروحاني،والامتزاج النفساني،فما الذي يمنع إذاً أن يقع الاتصال بين الأرواح المتعارفة والنفوس المتآلفة من أول نظرة؟!
يجيب ابن حزم عن هذا الاشكال بقوله:
«ولايظن ظان،ولايتوهم متوهم أن هذا مخالف لقولي المسطر في صدر الرسالة بأن الحب اتصال بين النفوس في أصل عالمها العلوي،بل هو مؤكد له،فقد علمنا أن النفس في هذا العالم الأدنى قد غمرتها الحُجب،ولحقتها الأعراض، وأحاطت بها الطبائع الأرضية الكونية، فسترت كثيراص من صفاتها، وإن كانت لم تحله لكنها حالت دونه،فلا برح الاتصال على الحقيقة إلابعد التهيؤ من النفس،والاستعداد له، وبعد ايصال المعرفة إليها، بما يشاكلها ويوافقها، ومقابلة الطبائع التي خفيت مما يشبهها من طبائع المحبوب،فحينئذ يتصل اتصالاً صحيحاً بلا مانع.
وأما مايقع من أول وهلة ببعض أعراض الاستحسان الجسدي، واستطراف البصر الذي لايجاوز الألوان، فهذا هو سر الشهوة ومعناها على الحقيقة..» «29».
ومعنى كلام ابن حزم السابق: أن الاتصال بين النفوس المتوافقة لايحصل من أول نظرة بل هو يحتاج إلى زمن تنكشف فيه الحجب، وتزول فيه الطبائع التي اكتنفت النفس الإنسانية حتى تتهيأ النفس للاتصال والامتزاج مع الموافق لها..وأما الذي يقع من أول نظرة فهو ليس الحب، ولكنه الاستحسان الذي لايجاوز معنى الشهوة!
وهذا الكلام قد لايعجب أنصار الحب «من أول نظرة» ولكنهم لن يخسروا شيئاً إذا تأملوا فيه!
وأما ابن القيم فلم يتعرض صراحةً لهذه المسألة وإن كان الذي يبدو من كلامه أنه يرى وقوع الحب من أول نظرة «30».
الحب الأول
ويتحدث ابن حزم عن تأثير الحب الأول في نفس الإنسان، وهو تأثير عجيب، فرب إنسان أحب صفة في محبوبه الأول، فلم يستحسن بعدها غيرها ممايخالفها وإن كانت المخالفة إلى الأفضل والأحسن!
ويروي ابن حزم في ذلك حكايات عرفها بنفسه فيقول:« وإني لأعرف من كان في جيد حبيبه بعض الوقص «أي في رقبته قصر» فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك!
وأعرف من كان أول علاقته بجارية مائلة إلى القصر، فما أحب طويلة بعد هذا!
وأعرف أيضاً من هوى جارية في فمها فَوَهٌ لطيف «أي اتساع في الفم» فلقد كان يتقذر كل فم صغير ويذمه، ويكرهه الكراهة الصحيحة» «31».
ويقول ابن حزم أن هؤلاء الذين حكى عنهم ليسوا ممن قل حظهم من العلم والأدب بل هم من أوفر الناس في الإدراك والعلم والفهم والأدب ولكن للحب حكمه على النفوس «32».
ويحكي لنا ابن حزم تجربته الشخصية مع الحب الأول فيقول:« وعني أخبرك أني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر، فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه، واني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت لا تؤاتيني نفسي على سواه، ولاتحب غيره البتة» «33»!
ويبدو أن ابن القيم يشاطر ابن حزم الرأي في أن الحب الأول أقوى وأمكن في النفس، كما يظهر من استشهاده بقول قيس بن الملوح «34»:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وبقول الآخر «35»:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ماالحب إلا للحبيب الأول
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
دوام الوصل..هل يذهب بالحب؟
هنالك من يقول أن دوام الوصل يذهب بالحب، وابن حزم ينكر هذا القول أشد الإنكار فالحب الحقيقي دوام الوصل يزيده ولاينقصه ويقويه ولايضعفه فكيف يقال أنه يذهب به؟!
يقول ابن حزم:« ومن الناس من يقول: إن دوام الوصل يودي بالحب، وهذا هجين من القول، إنما ذلك لأهل الملل، بل كلما زاد وصلاً زاد اتصالاً وعني أخبرك أني مارويت قط من ماء الوصل، ولازادني إلا ظمأً وهذا حكم من تداوى بدائه..» «36».
ويرى ابن حزم في وصل المحبوب على الحال الذي يرضي الرب مع التكافؤ في المحبة من الطرفين، وسعة الرزق، وهدوء الزمان: من أعظم النعم وأجلها على الإنسان، لكنه عطاء لايحصل لجميع الناس، وحاجة لاتقضى لكل طالب «37».
ويقول عن نفسه:« ولقد جربت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما الدنو من السلطان ولا المال المستفاد ، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة، ولا الأمن بعد الخوف، ولا التروح على المال «التنعم بالمال» من الموقع في النفس ماللوصل لاسيما بعد طول الامتناع، وحلول الهجر..» «38».
وابن القيم يرى أيضاً أن الوصل بين المحبين يقوي الحب مادام في حلال، وأما إن كان في حرام فهو يفسد الحب، ويجعل المحبة تنتهي إلى العداوة والتباغض «39».
شجار المحبين..هل ينافي الحب؟!
ومن نظرات ابن حزم الثاقبة انه يرى من علامات الحب التي قد تقع بين المتحابين: كثرة الشجار ذلك أن ابن حزم يقسم علامات الحب إلى قسمين:
1ـ علامات التوافق، مثل: إدمان النظر إلى المحبوب، والإقبال بالحديث عليه، والحرص على الدنو والقرب منه، والاضطراب عند سماع اسمه.. الخ.
2ـ علامات التضاد: فالإفراط في الحب قد يؤدي إلى ظهور علامات التضاد مثل: كثرة التهاجر بين المحبين بلا سبب ولامعنى، والمخالفة في القول عمداً، والتحسس من الأشياء الصغيرة.
وابن حزم يفسر ذلك بأن الأشياء إذا بلغت منتهاها جاءت بالأضداد فالثلج إذا أدمن حبسه في اليد فعل فعل النار والفرح إذا أفرط قتل والضحك إذا كثر واشتد سال الدمع من العينين..وهكذا المحبة إذا تأكدت بين المحبين تأكداً شديداً أنتجت الأضداد من التهاجر والتشاحن والمخالفة ! «40».
ولعل ابن حزم ـ هنا ـ يقدم لنا تفسيراً فلسفياً عميقاً لمسألة احتار فيها المحبوب والعشاق أنفسهم، ولم يفهموا أسبابها!
وزيادة في الإيضاح فإن ابن حزم يعطينا فرقاً بين شجار المحبين، وشجار المتباغضين ، وذلك الفرق هو أن شجار المحبين سرعان مايزول، والخلاف بينهما سرعان مايتلاشى ويرجعان إلى أجمل الصحبة وأصفى المودة، وإلى المضاحكة والمداعبة وهكذا يستمر الحال بينهما «وإذا رأيت هذا من اثنين ، فلا يخالجك شك ولايدخلنك ريب البتة، ولاتتمارى في أن بينهما سراً من الحب دفيناً» «41».
تلك هي فلسفة ابن حزم لشجار المحبين وأما ابن القيم فلم أر له كلاماً في هذه المسألة.
المعصية تشين الحب وتفسده
الحب الحقيقي عند ابن حزم علاقة روحية لاتنفصم عُراها، فهو اتصال بين النفوس وتآلف بين الأرواح وعلاقة بهذا السمو يجب المحافظة عليها، وصيانتها بالعفاف، والبعد بها عن المعصية والرذيلة، لأن المعصية تفسد العلاقة بين المتحابين في الدنيا ، وتقطعها في الآخرة:« الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين» «42».
ويحكي ابن حزم عن نفسه ـ في أول شبابه ـ أنه امتنع من دخول دار كان فيها من يهوى، خوفاً على دينه، وفي ذلك يقول «43»:
لاتتبع النفس الهوى
ودع التعرض للمحن
ابليس حي لم يمت
والعين باب للفتن
وكذلك ابن القيم يشيد بالحب العفيف الطاهر، ويحذر من الانسياق إلى المعصية ويطيل الكلام في ذلك جداً، ويستشهد بجملة وافرة من النصوص والحكايات والأشعار، وكلها تؤكد على أن المعصية تفسد الحب، وتفسد العلاقة بن المتحابين وتورث القطيعة في الدنيا، والعداوة في الآخرة «44».
وممااستشهد به ابن القيم قول نفطويه «45»:
كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني
منه الحياء وخف الله والحذر
وكم قد ظفرت بمن أهوى فيقنعني
منه الفكاهة والتحديثُ والنظرُ
كذلك الحب لا إتيان معصية
لا خير في لذةٍ من بعدها سقرُ
وفي الختام..أرجو أن أكون قد وفقت في عرض فلسفة الحب عند الإمامين الجليلين.. ابن حزم وابن القيم، كما أرجو أن يكون القارئ قد استمتع بهذا العرض..وكم هو حري بنا أن نمعن النظر في الثروة العلمية والفكرية التي تركها لنا علماؤنا ومفكرونا وأن نسعى وراء اكتشاف كنوز ثقافتنا العربية ـ الإسلامية وهذا واجبنا كأبناء لهذه الثقافة: أن نعمل على ابراز كنوزها واستخراج الحكمة منها دون أن يعني ذلك التقوقع على الذات، بل علينا أن نمد جسور التواصل مع الفكر الإنساني كله، فالحكمة هي ضالة المؤمن وأنى وجدها فهو أحق بها.

0 التعليقات :

إرسال تعليق

تعديل